التوثيق عبر الإنترنت: ما المقصود بذلك؟
جيل كامل من الكتّاب الشباب يرى في القصص التفاعلية شكلاً جديداً في السرد القصصي. كما أنها السبيل الأنجع لكسب اهتمام مشاهد المستقبل، الذي نشأ مع الإنترنت والوسائط المتعددة. وبالفعل تحظى ما تعرف بوثائقيات الإنترنت مع الوقت باهتمام جماهيري واسع. لكن ما هي وثائقيات الإنترنت؟ تجدون الإجابة عند فيليب بارت.
ما المقصود بوثائقي الإنترنت؟
وثائقي الإنترنت أو “ويب دوك” أو فيلم وثائقي الإنترنت أو فيلم تفاعلي أو وسائط متعددة: كثرة التسميات دليل على صعوبة العثور على تعريف واضح على هذا النوع الجديد. نحن نتحدث في الأساس عن قصص ذات طبيعة وثائقية يتم عرضها عبر شبكة الإنترنت. يتم التميز بين ما ينتج من خلال أسلوب صناعته وشكله وطريقة عرضه، ومع ذلك هناك بعض القواسم المشتركة بين كل ما ذكر:
دور جديد للمشاهد
في وثائقيات الإنترنت لم يعد المشاهد مشاهداً فعلياً من خلال اتساع إمكانيات الخيار لديه، وبالتالي تأثيره المباشر على أحداث القصة. لقد أصبح مكانه بين المشاهد والروائي؛ أي بين الحيادية والمشاركة. وعليه أن يقبل بهذا الدور.
الوسائط المتعددة
من حيث المبدأ فإن وثائقيات الإنترنت لا حدود لها فيما يتعلق بطريقة التعبير، فهذا النوع من الوثائقيات متعدد الوسائط في أفضل الأحوال، وكل شيء ممكن فيه: الفيديو أو عرض شرائح صوتية أو معرض صور أو النص أو الصوت أو رسومات المعلومات أو الخرائط أو رسومات البيانات أو الرسم أو اللقاءات الإضافية.
عمل جماعي جديد
وفرة أشكال الوسائط المتعددة المختلفة يعني أيضاً وفرة مهام الاختصاصيين. إذ تنتج وثائقيات الإنترنت في إطار عمل جماعي، فإلى جانب الكاتب هناك المصممون ومختصو الغرافيك والمصورون ومطورو صفحات الإنترنت والمبرمجون، الذين يشاركون في عملية الإنتاج منذ البداية. أو كما يقول المنتج “بيتر وينتونيك“: “وثائقي الإنترنت هو نوع من السيمفونيات، أو كونشيرتو موسيقى الحجرة على الأقل، بحيث يجمع بين الملحنين وقادة الفرقة الموسيقية والفنانين والجمهور، وجميعهم يلعبون أدواراً هاماً.”
مشاركة المشاهدين
أغلب وثائقيات الإنترنت تعتمد على مشاركة المشاهد وتتيح له على الأقل فرصة المشاركة في النقاش ونشر صوره الخاصة والمشاركة في المنافسات والاختيار وما إلى ذلك. وفي الحالة المثالية يمكن لوثائقي الإنترنت أن يبقى موقعاً فاعلاً لمواضيع معينة أو لمجموعة لعدة سنوات بعد النشر.
من هو المنتج الفعلي لوثائقيات الإنترنت؟
عدد كبير من مخرجي الأفلام الوثائقية والمصورين المخضرمين يبحثون في هذا المجال عن أساليب جديدة لتقديم قصصهم. يضاف إليهم الكثير من الكتّاب اليافعين الذين نشأوا في عصر انتشار الإنترنت. في فرنسا تعتمد مدارس صحافية كثيرة في منهاجها الآن تدريب الطلاب على وثائقيات الإنترنت، وتشهد حلقات البحث المتعلقة بالسرد التفاعلي إقبالاً كبيراً.
كيف يتم إنتاج وثائقيات الإنترنت؟
الفارق عن الأفلام الوثائقية هو الجهد البرمجي الهائل في وثائقيات الإنترنت. ففي حالة الإنتاجات الكبيرة مثل “جور دي فوت”
استغرق الفيلم 12 يوماً من التصوير، ولكن 20 يوماً للبرمجة. وهذا العمل أنجزه خبير من خارج فريق العمل، وقام بالتجريب وفق معطيات دقيقة مستمدة من عالم وثائقيات الإنترنت. ما يعني أن المحتوى حافظ على الفكرة في أدق التفاصيل. ومن يريد بذل جهد أقل، فهناك برامج للمبتدئين في الأسواق مثل “كلينت دوت نت” أو “ثري دبليو دوك” أو “دجيهوتي” وهذه البرامج تتيح لمن لا يجيد البرمجة إنتاج وثائقيات تفاعلية.
كيف تطورت وثائقيات الإنترنت؟
استُخدم مصطلح “توثيق الإنترنت” للمرة الأولى في عام 2002 في مهرجان سينما الواقع في مركز بومبيدو في باريس. أول إنتاج يمكن اعتباره أنه اتبع معايير وثائقيات الإنترنت الحالية، ظهر في عام 2005 بعنوان: مدينة الأموات لشركة الإنتاج يوبيان لصاحبها “ألكسندر براشيه“. ولا يزال “تاناتورما”
من عام 2007 عملاً يستحق المشاهدة حتى اليوم: رحلة غامضة إلى المحرقة والتحنيط والمقبرة. عمل يلامس المشاهد بشكل مباشر: “أنت ميت. هل تريد أن تعلم ماذا سيحدث لجسدك؟” (من يضغط زر “لا“، فسيعود إلى صفحة غوغل الرئيسة). وفي عام 2008 تم إنتاج وثائقي الإنترنت “غزة سيدروت” والذي يستعرض واقع أناس يعيشون على طرفي الحدود بين غزة وإسرائيل. الحدود حاضرة كعنصر متواصل على جميع مستويات القائمة العامة والخيارات. وفي العام ذاته أنتجت شركة الإنتاج الباريسية “هونكيتوك” فيلم “رحلة إلى نهاية الفحم“، والذي يرتكز بشكل كبير على ألعاب المغامرات مثل “جزيرة القرد“. يتحكم المشاهد بوجهته في العالم، وهو الذي يقرر وجهة رحلته الاستكشافية. للمرة الأولى يستعين وثائقي إنترنت بشكل صريح ببصريات الألعاب والمنطق. ومن المفترض استمرار هذا النهج من الإنتاج. حتى مؤسسة دويتشه فيله استخدمت هذا المنحى في سرد وثائقيات الإنترنت خاصتها.
يعد عام 2010 هو عام ظهور وثائقيات الإنترنت كقسم مستقل بحد ذاته. بفضل فيلم “بريزن فالي” يستحوذ إنتاج تفاعلي للمرة الأولى اهتمام شريحة واسعة من الجماهير. ففي الأشهر الثمانية الأولى زار الصفحة 600 ألف متصفح. وكان حينها رقماً قياسياً. وقد حصد إنتاج محطة “آرتي” التلفزيونية جميع الجوائز الهامة، ولا تزال المحطة تعد المعيار في هذا المجال. وفي عام 2011 ظهرت إنتاجات مؤسسة الأفلام الكندية “ولكام تو باين بوينت” والتي تشبه كتاباً. وكذلك فيلم “بير ٧١” الذي يقحم المشاهد في عالم تفاعلي ولا يحدد له اتجاهاً معيناً.
ما هي الجرعة الصحيحة من التفاعلية؟
من المثير للاهتمام أن وثائقيات الإنترنت، التي لاقت رواجاً لدى المشاهدين، تمتاز بالسرد المتواصل نسبياً وتتجنب تعدد الخيارات. لكن في الواقع فإن كثيراً من وثائقيات الإنترنت تثير جدلاً فيما إذا كانت تفاعلية القصة أمراً مفيداً أم لا. مصمم الألعاب “فلوران موران” يتحدث عن “تسونامي معلومات“، وقد يخشى المرء أن يذهب جزء من المعنى في حال تعددت الخيارات. هذا يضر بالقصة، فعتبة الاهتمام لدى المشاهد أمام الكمبيوتر محدودة جداً: فشيء من الملل أو التشويش يجعل المشاهد يغير الموقع بكبسة زر. “سيمون بويسون” منتج فيلم “جور دي فوت” لخص ذلك على النحو التالي: “من الأفضل أن تتاح الفرصة للمشاهد الكسول أن يفهم القصة كاملة بكبسات زر قليلة، في حين بإمكان المشاهد النشط أن يتلاعب بالمحتوى والقصة. ولكن لمجرد أننا في شبكة الإنترنت لا ينبغي علينا تجزئة القصة من خلال جعلها الضغط على جميع الخيارات المتاحة، فحينها يضيع على المشاهد مغزى الموضوع.”
ما هو التوجه في هذا المجال؟
التوجه يأخذ منحى “ما قل ودل“. حتى على صعيد الإمكانيات التفاعلية لن تغير الإنترنت الأحداث الدرامية الأساسية للقصة، فللقصة بداية ونهاية. استخدام تعدد الخيارات يجري بشكل واعٍ، وعناصر السرد المترابطة سيصبح لها معنى إلى حد ما. (لكن للألماني فلوريان تالهوفر وجهة نظر مختلفة بشكل جذري. فمعهده كورساكو يروج لـ“نهاية السرد المترابط“.
“في كل مرة يجب فهم التفاعلية بشكل جديد“، يقول ألكسندر كنيتيغ من قسم الإنتاج الدعائي في Arte. تعد هذه المحطة التلفزيونية من أهم المنتجين وإحدى أهم المواقع للأفلام التفاعلية. وفي الآونة الأخيرة تصل قسم التحرير في المحطة سنوياً مئات مقترحات وثائقيات الإنترنت من الكتّاب. ولا يتم إنتاج سوى سبعة أو ثمانية مقترحات. أحدث وثائقي إنترنت هو “ألما – طفل العنف” وقد حقق انطلاقة ناجحة جداً، وشاهده عبر الإنترنت مئات الآلاف خلال أيام قليلة. تعني التفاعلية هنا أن يقرر المشاهد إذا ما كان يريد متابعة الحوار مع الصور التي التقطتها بطلة القصة ألما والمرفقة بالحوار أو يتابع وجهها أثناء حديثها. حل بسيط لا يبتعد كثيراُ عن سرد الفيلم المتتابع. هذا التطبيق البسيط نسبياً يتيح للمستخدم التحكم باللقطة ذاتياً بشكل حدسي. يمكن للمرء أن يفترض مستقبلاً عدم استثناء إنتاجات ضخمة من هذا النوع دون تطبيقات. المغري جداً هو الإمكانيات التي توفرها الشاشات اللوحية. وبغض النظر عن سوق المشاهدين الجديد من خلال زيادة عائدات الكمبيوترات اللوحية، فسيتم الاعتماد بشكل متزايد مستقبلاً على تعدد أشكال العرض عبر الإنترنت.
كيف تمول وثائقيات الإنترنت؟
تمويل أشكال العرض التفاعلية هو أمر صعب حتى الآن، حتى وإن كان العمل مشتركاً. فالإنتاج ليس مكلفاً بسبب البرمجة المعقدة فحسب، بل إن اهتمام المشاهدين لا يزال ضئيلاً أيضاً: لا تجلب وثائقيات الإنترنت أية أرباح مادية، لذا تعتمد وثائقيات الإنترنت على استغلال جميع الوسائط المتعددة، فهي مصممة أساساً لوسائل إعلامية مختلفة. أفضل مثال على ذلك هو آخر إنتاج لقناة Arte “ألما – طفل العنف“: فإلى جانب وثائقي الإنترنت ثمة فيلم وثائقي وتطبيق هاتف ذكي وكتاب ومعرض. كما أن الحضور في شبكات التواصل الاجتماعي هو أمر مفروغ منه.
ما الذي يتعين على المرء قراءته، وكيف يبقى المرء مطلعاً على الموضوع بشكل مستمر؟
كتاب “ويب دوكس” يلقي نظرة رائعة على الموضوع من منظور مخرجي وثائقيات الإنترنت المهمين، بالإضافة إلى احتواء الكتاب على نصائح عملية عن التمويل. متى ولماذا يشد فيلم وثائقي إنترنت جيد المشاهد وإلى إي مدى يجب أن يكون مستوى التفاعل؟ مصمم ألعاب الكمبيوتر “فلوران موران” خطرت بباله بعض الأفكار التي تستحق الاهتمام. كما يتعمق “آرنو جيفرو” في تفاصيل تعريفه العلمي “التوثيق التفاعلي” بحيث وضع قائمة تويتر تحتوي أشخاصاً تستحق أفكارهم القراءة.
فيليب بارت هو صحافي مصور ومدون عن السرد التفاعلي في الإنترنت وأحدث التطورات في هذا المجال على موقع “ويب دوكو” وهو كاتب مساعد لوثائقي الإنترنت “يونان إكسبورت” ويتدرب حالياً في مؤسسة دويتشه فيله.